المجزرة الواحدةرأي أيهم السهلي الخميس 19 أيلول 2024
0
لم يزل محمد سرور مرعي، الرجل الذي فقد والده، وعدداً من إخوته في مجزرة صبرا وشاتيلا في أيلول عام 1982، يروي كل عام، تفاصيل قتل أهله، ومثله شقيقه ماهر الذي شهد بأمّ عينه كيف أطلق المهاجمون النار على والده في ظهره، بعدما أمروه بالوقوف أمام الجدار في منزلهم إلى جوار بقية العائلة، فأردوه في ظهره، وأردوا شادية (سنة وثلاثة أشهر) وهاجر (7 سنوات) وشادي (3 سنوات) وفريد (8 سنوات) وبسام (11 سنة) وسعاد التي كان عمرها 14 عاماً، لم تستشهد، لكنها أصيبت بشلل تعاني منه حتى الآن.قبل أن يسفكوا دم العائلة، سرقوا منهم المال، كل ما كان الأب سرور مرعي يملكه أخذوه، أخبرهم بأن يأخذوا المال، ويأخذوه ويقتلوه، ويتركوا أولاده أحياء. وعدوه، فقتلوه، وقتلوا الأولاد.
يذكر ماهر، كيف قتلوا عائلته، فقد شاهد بعينه كل شيء. وماهر واحد من الشهود الرئيسيين على المجزرة، فقد قابلته هيئات عدة أجرت التحقيقات والأبحاث، يقول في استعادة ما حصل يوم 17 أيلول/ سبتمر 1982 في منزل عائلته الكائن بمنطقة الحرج المجاورة تماماً للمخيم «شافونا.. شافونا.. افتح ولا منفجم بيتك، نحنا جيش الدفاع الإسرائيلي، عرف أبوي من الصوت واللغة، إنهم مش إسرائيليين، دخلوا البيت من غير ما نفتح لهم، حققوا معنا. بلشوا إطلاق النار، قوّصوا أبوي، وصار القواص عشوائي، أنا هربت ع الحمام [كان عمر ماهر 12 سنة]، ومعي أخوي اسماعيل [9 سنوات]، ومن الحمام شفنا كل شي. قوّصوا إخواتي، بسام أخوي كان واقف بين الحيط والفرشات، وكنا قبل بيوم، نمزح، وقلّي، انو لو إجوا يقتلونا بتخبى بين الفرشات والحيط، وبالفعل كان نصيبه أن يموت بين الفرشات والحيط. أختي شادية كان عمرها سنة وثلاثة أشهر، وبتحبي باتجاه أمي، ولما وصلت بين أمي وأبوي، قوصوها براسها».
خارج المنزل، وبعدما تمكنت يمامة عبد الله والدة ماهر من الخروج مع ابنتها نُهاد (16 عاماً)، وقد أصيبتا بثلاث طلقات على الأقل، نحو مستشفى غزة لتلقي الإسعافات الأولية، وطلب الإسعاف لسعاد التي أصيبت بعدة رصاصات أدت إلى شللها فوراً، كانت صدمة الأم وابنتها نهاد، بأنهما مرّتا فوق الجثث، كما تعرّضتا لإطلاق نار وشتائم كثيرة.
هذه القصة المؤلمة وغيرها قصص كثيرة لا مفاضلة فيها بحجم الألم، تحفل بمثلها ذاكرة الناس في مخيم شاتيلا ومحيطه، من فلسطينيين ولبنانيين، فالقتلة لم يفرقوا بين الجنسيات، فأجرموا بكل بشري أمامهم، وكان في حصادهم سوريون ومصريون وبنغلادشيون وأتراك وباكستانيون وسودانيون وإيراني وتونسي.
لقد مرّت الجريمة، ولم يعد منها سوى الذكرى، واحترام ضحاياها. ولأن القتلة ظلّوا طلقاء، نعيش اليوم ما نعيشه من الإبادة المستمرة منذ عام تقريباً في غزة
مرّ على المجزرة 42 عاماً، ولم يحاسب أحد، ويبدو أن القتلة لن يحاسبوا، والأسوأ من هذا، أنهم لا يكترثون، ولا يعوّلون مثلاً على نسيان ذوي الضحايا. فليس لديهم أيّ وجل أو إحساس بفداحة ما فعلوا.
لقد مرت الجريمة، ولم يعد منها سوى الذكرى، واحترام ضحاياها. ولأن القتلة ظلّوا طلقاء، نعيش اليوم ما نعيشه من الإبادة المستمرة منذ عام تقريباً في غزة، والعدوان المترافق على لبنان وجنوبه تحديداً. وما لم يحاسب الاحتلال وأعوانه على أفعالهم، فإن المجزرة ستستمر إلى ما لا نهاية، ولن تتوقف، إلا بتوقفنا عن الحياة. وهذا ما لم ينجح فيه قبل 76 عاماً، ولن ينجح اليوم، والدلائل على ذلك كثيرة. لكن الأثمان في المقابل كبيرة جداً، نعيشها، ولا يمكن أن نتعايش معها، والمفروض أن لا يتعايش معها العالم أيضاً، إن كان هناك من يودّ الحفاظ على بعض القيم بين البشر، ولا سيما أن الانحياز الأعمى للاحتلال، والتبرير الكامل لجرائمه، في مقابل تجريم كل فعل فلسطيني أو من أجل فلسطين وشعبها، يجرّم في أكثر الأماكن التي تطالب بالديموقراطية، وتقول إنها تدافع عن حرية الرأي، فمنعت التظاهرات، واعتبر دعم الفلسطينيين، أو رفض المجزرة الحاصلة على الأقل، جريمة يحاسب عليها القانون.
إن استمرار هذا الخلل في الميزان سيؤدي حكماً إلى انفلات عقال العدل في العالم، وهو منفلت أصلاً، وستكون في هذا العالم أفعال، سنسمع أصواتاً تقول هذه الأفعال كتلك التي جرت بحق الشعب الفلسطيني، وقد صمتّم، فاصمتوا الآن... لذا لن تكون الحروب القادمة في أيّ مكان في العالم خاضعة لمعطيات التحليل التي كانت صالحة أمس، أو التوازنات التي كان ينظر إليها بعين الاعتبار في الأمس. الحروب القادمة، ويبدو أنها قد تكون كثيرة في منطقتنا والعالم، لن تسلك لا قواعد ولن تلتزم بأيّ أخلاقيات للقتال.
في أيام وليالي المجزرة عام 1982 استشهد الآلاف، بينهم أفراد من عائلة سرور، وأصيب البعض في أجسادهم، وبعضهم يحملون إصابتهم حتى اليوم، كسعاد سرور التي رفعت دعوى على أرئيل شارون قبل أكثر من عشرين عاماً، وقد كان وزيراً للحرب خلال ارتكاب المجزرة عام 1982، ورئيساً لحكومة الاحتلال وقت الدعوى. لم تنجح الدعوى حينها، ونجا شارون من العقاب، بالتلاعب، والاحتيال الدولي. فكانت مجازر بعد ذلك، وكان جدار الفصل العنصري، وكانت حرب تموز 2006، وكانت حروب متعددة على قطاع غزة، آخرها الإبادة الحالية. ومثل قصة عائلة سرور، هناك آلاف القصص اليوم في قطاع غزة، وكل فرد لديه ما يحكيه أمام المحاكم والقضاء الدولي، ومع أني لا أعوّل على هذه «العدالة» المائلة، إلا أنها يجب أن تكون إلى جوار كل فعل آخر يواجه الاحتلال ويوجعه... وحتى ذلك الحساب، ستبقى ذكرى هؤلاء الشهداء والضحايا الأحياء تنبّهنا وتصرخ وتصرخ وتصرخ.
*صحافي فلسطيني