رحلة «الشسمه» من بغداد إلى غزةرأي صدقي عاصور الخميس 19 أيلول 2024
0
«وكانت حالة من الفرح العارم والهستيري تسيطر على الجميع، وبالذات في حي البتاويين، لم يصدق أحد أن المجرم المخيف هذا كان يسكن بينهم، ولكن ما تقوله الحكومة صحيح. وهم سعداء الآن لأنهم تخلصوا من عدو كان ينام بينهم… لقد انتهت جميع مشاكلهم أو هكذا يوهمون أنفسهم» - محمد سعداوي، فرانكشتاين في بغداد
بعد عقدين على الغزو الأميركي، بإمكاننا القول إننا فشلنا في فهم أهمية العراق ومجتمعه المعاصر. من الذي قرّر أن مركز الثقل السياسي والثقافي العربي قد انتقل من العراق إلى الخليج بعد الغزو؟ لماذا تعاملنا مع الأمر وكأنه حتمي؟ هل أعطينا العراق فرصة لينهض ويكون قائداً مرة أخرى؟ على العكس من ذلك تماماً، طبّقنا نموذج «جنوب السودان» على العراق وتعاملنا معه كأرض عربية فقدناها لمجموعة من «أبناء رامسفيلد» الذين يلبسون قبعات رعاة البقر، قبل أن قررنا بعنجهية أن هذه الأرض «مستعمرة إيرانية».
لنأخذ مثلاً مجلة «متراس» كالناطق الرسمي لليسار الفلسطيني الداعم للمقاومة. تبنّت هذه المنصة لغة «القدس العربي» وغيرها من «منصات الربيع» بشأن نظرية «المد الإيراني» في المشرق العربي قبل أن تنشر مقالاً في عام 2021 بشأن دروس التجربة الطالبانية في إجبار الأميركيين على الانسحاب المذل من أفغانستان. ماذا عن الفشل الأميركي في العراق والذي يقزّم التجربة الأفغانية؟ خلال مشروع نزع البعثية الأميركي لتحويل العراق إلى دولة من دول «الاعتدال العربي»، كان بإمكان العراقيين اقتناص عدة فرص تاريخية لتبني بكائيات التحرر من «الديكتاتورية» التي جوّعتهم وحرمتهم من الانفتاح والانضمام إلى النظام الدولي الليبرالي، وبناء طبقة إدارية مهنية واسعة ترتزق من الترويج للتطبيع. عوضاً عن ذلك، بنى العراقيون نموذجاً يكسر كل توقعاتنا وعقدنا التي نعكسها عليهم؛ سواء كنا من أحباء «الديمقراطية الأميركية» أو أحباء «أبو عدي». بقي «موطني» هو النشيد وبقيت «الله أكبر» في العلم، وبات العراق كياناً معادياً أكثر من السابق لإسرائيل. إذا كنّا نريد تقييم التجربة الأميركية في العراق ورأي العراقيين بـ«التحرير الأميركي» انظروا إلى ما فعله منتظر الزيدي عندما قذف جورج بوش بالحذاء، هذا الفعل لوحده عليه أن يشعرنا بالخجل من جماعة «أخاف أن يأكل بعضُنا بعضاً إن انتهى الاحتلال الإسرائيلي» في فلسطين، وجماعة «أفضل ما حدث في سوريا هو الوصاية الأميركية على شمال شرقها» وجماعة «من شان الله انتدبونا» في لبنان.
عن الحاجة إلى الوحوش
يأتي هذا المقال كجزء ثالث من مقالات «نقد الحرب على الإرهاب» في منطقتنا ومجتمعاتنا، وهو النقد المركزي في رواية أحمد سعداوي «فرانكشتاين في بغداد». أجزم هنا بأن لجنة جائزة البوكر الإماراتية قد منحت الجائزة لسعداوي دون فهم معمّق للرواية ونقدها وتحذيرها للطبقة ذاتها التي أعطته الجائزة. الأسس السطحية لمنح الجائزة كلها جاهزة: صحافي عراقي متنوّر من المجتمع المدني العراقي «المظلوم» ينشر رواية تشتكي من ظاهرة الميليشيات والإرهاب ونحن على أعتاب إعلان خلافة «داعش».
الرسالة الأساسية من الرواية أعمق من ذلك بكثير، إذ هي تنتقد صناعة العدو الداخلي في الحرب على الإرهاب، خاصة أن إيجاد هذا العدو من قبل أوساط الإعلام والأكاديميا يتطلب من قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى العربية بأن تصبح هي بذاتها عدواً داخلياً لغيرها الحقيقي والمتخيل، وبذلك أن تصبح مساهمة في بناء نسيج هذا الوحش. الشخصية الرئيسية في رواية السعداوي تدعى بـ«الشسمه» أي «الذي لا نعرف اسمه» وهو وحش مصنوع من أشلاء ضحايا العنف في بغداد بعد عامين على الغزو. في الوقت ذاته، هذا الوحش الذي يقتل ويشارك في ممارسة العنف يتحول إلى مادة مفضّلة لصناعة الخوف ووجه (لا وجه له) يُلقى اللوم عليه، بحيث تصبح هزيمته -عن طريق محاربة الإرهاب- حفلة كبرى من النفاق الذي لا يعني شيئاً.
كان الهدف من نقدِ نقد الاستشراق لدى إدوارد سعيد هو رغبة المثقفين الليبراليين في رؤية الإنسان العربي متحرراً من الصراعات الهوياتية بين الشرق والغرب ومن نظريات المؤامرة ومن دعاية الأحزاب القومية الحاكمة ذات شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الإمبريالية». لكن ما عشناه في العقدين الأخيرين هو نتاج الانفكاك عن معاداة العدو الخارجي؛ طبقة وسطى عربية مصابة بالهستيريا من العدو الداخلي؛ إخونجية بحاجة إلى محاربة من قبل السلطة، سلطة فقدت شرعيتها بحاجة إلى قصف «الأطلسي»، ميليشيات، أذرع إيرانية...
ينتقد محمد السعداوي ذاك العربي الذي جعله عدوه الداخلي الذي ينهمك بالخرافات، وذلك من خلال سرده في الرواية لـ«دائرة المتابعة والتعقيب» التابعة للإدارة المدنية للاحتلال الأميركي، وهي مكتب من المنجمين وقارئي الطالع المنهمكين بالبحث عن العدو الداخلي، أي «الشسمه». هذا الوصف الفني ينطبق بدقة على الأزمة المعرفية للحرب على الإرهاب، والتي هي حرب ضد المجهول وضد العدو الكوني الذي سيهاجم في أيّ لحظة، بحيث تتطلب محاربته من قبل المؤسسة الأمنية والمجتمع الحاضن لها رفض الواقع والتفكر عوضاً عن ذلك والتنبؤ في أسوأ الكوابيس وأقلها منطقية في المخيلة الإنسانية.
الخاتمة: فرانكشتاين الإبراهيمي
هذا الانهماك بالعدو الداخلي استشرى في حقبة ما بعد فشل «الربيع» (أي الحقبة التي اشتملت على الاحتفالات السوريالية والمربكة بتخلّص مصر من «الإخوان» في عام 2013 وفعاليات تعليق المشانق بعد انفجار المرفأ في بيروت في عام 2020) واستمر حتى حقبة ما بعد «طوفان الأقصى». حاملات الطائرات الأميركية في الساحل الفلسطيني والإبادة الجماعية في غزة بحد ذاتها لم تكونا كافيتين لكي يرى الكثير من أبناء الجلدة العدو الخارجي مرة أخرى، على العكس من ذلك، «حماس»، العدو الداخلي لبعض العرب، هي السبب وراء الإبادة، وإسرائيل، الشريك الإبراهيمي، تستحق التماس الأعذار لها في حربها لـ«تغيير النظام». وأمّا اليوم التالي في غزة، فهو بحاجة إلى «بول بريمر» جديد يعلّم الفلسطينيين حبّ الغرب الأليف، تماماً كما «نجح» في العراق.
*كاتب فلسطيني